الأحد 31 آب 2014 – 11:30 ص
لا يمرّ يوم على لبنان وعلى المنطقة العربية عموماً، إلا ويتصاعد العنف على جبهات المذاهب والأديان فيه، بينما يخفت تدريجياً صوت الإسلام المعتدل، الإسلام الذي يحمل الاعتدال بمعناه الحقيقي، وبالطبع ليس المجازي أو السياسي.
ووسط هذا الواقع القاتم، حيث تُحمّل الأديان والمذاهب ما لا طاقة لها به، في حكايةٍ تارةً عنوانها المذهب وطوراً عنوانها الطائفة، يحضر الغائب الحاضر، من صرخٍ في البراري والساحات والقاعات والمساجد والكنائس، بأنّ أصل تلك الحكاية في مكانٍ آخر اسمه الإنسان، وطريقه الإنسانية، طريق يحمي الوطن ويرفع درجات المواطنية، ويصان فيه الدين بصدق.
هو الإمام المغيّب السيّد موسى الصدر، الذي تصادف هذا الأسبوع ذكرى تغييبه السادسة والثلاثون، مع رفيقيه، على يد نقيضه المطلق معمر القذافي. هو الإمام الذي سار على فقه نهضوي، استلهمه من أسباب الدين ومن تعاليمه الصائبة وعلياء مفاهيمه، فمنح العمامة رُقيّاً قلّ مثيله بين رجال الدين.
وعلى الرغم من حضور الإمام موسى الصدر في وجدان الكثير من اللبنانيين والعرب، والإشادة الدائمة بدوره السياسي والوطني بشكل عام، خصوصاً في ما يتعلق بمحاربة التقسيم والطائفية والحرمان ورفض الاقتتال وبتعبئة الشباب لنيل حقوقهم المشروعة، وبالطبع بإطلاق المقاومة في وجه “إسرائيل”، إلا أنه لم يُعطَ حقه بعد، في ما يرتبط بقيمته الحضارية والثقافية والدينية والإنسانية، التي تتخطى الظروف المكانية والزمانية، وترتفع بعيداً عن الأنماط الفكرية الاعتيادية.
فقد شكّل الإمام الصدر امتداداً مدوّياً لجمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده، فثار بتعاليم السماء إلى أعلى مراتب الكرامة الإنسانية. وإذا كان جمال الدين الأفغاني قد أعلن أنه ملعون في دين الرحمن، من يسجن شعباً، من يخنق فكراً، من يرفع سوطاً، من يُسكت رأياً، من يُهدر حق الإنسان، حتى لو صلّى أو زكى وعاش العُمرَ مع القرآن، فإنّ موسى الصدر قد حمل كل ذلك إلى أرض الواقع، في تجديدٍ قائمٍ على الإيمان والشجاعة والإقدام، ومشى به وسط الأزقة والحقول وبين القرى والمدن وفي القاعات والساحات، ثائراً ضد الظلم والحرمان والإقطاع والفساد والتصنيف والتعصب.
أتقن الإمام الصدر فقه المنطق وعمل على بث الجرأة لاستخدام العقل، محاكياً بعض ما أتى به إيمانويل كانط الذي رفع المجتمع الغربي المتطور. وإن كان هذا المجتمع أخذ من كانط جزئية العقل وترك في حالات عدة، باسم «التنوير»، الاعتقاد الديني، مهملاً توصيات الفيلسوف الألماني، فقد ارتقى الإمام اللبناني بمفهوم جديد للعلاقة ما بين الدين والسياسة. وهي علاقة جعلها تلين أمام المواطن وكرّسها مطية للإنسان، خليفة الله على الأرض، فرفض أن تخضع السياسة للحسابات الطائفية فتمعن احتقاراً في إنسانية المواطن وتضرب الوطن والدولة، كما رفض أن تلتحق الأديان بالسياسة فتتلوَّن اجتهاداتها وتتبدل طاعة لهذه السياسة وجنوحها.
قال الإمام الصدر إن «تجار السياسة هم الذين يغذون النعرات الطائفية للمحافظة على وجودهم بحجة المحافظة على الدين في الوقت الذي يكون الدين فيه بحاجة إلى من يحميه منهم»، ورأى أن الوطن عند هؤلاء التجار «كرسي وشهرة ومجد وتجارة وعلو في الأرض وفساد». واجه موسى الصدر الطائفيين، معلناً أن «دم المسيح يجري في عروقنا وصوت محمد يدوي في مسامعنا». وخَطب في كنيسة الكبوشيين خطبة هي «أھﻢ اﻟﺨﻄﺐ أﻟﺘﻲ اﻟﻘﯿﺖ ﻓﻲ اﻟﺰﻣﺎن واﻟﻤﻜﺎن وأﺑﻠﻐها»، بحسب الراحل غسان تويني، الذي قال عنه إنه «ﻳﺨﺘﺰن الإنسان اﻟﺤﻨﻮن اﻟﺬي ﻳﻤﺘﻠﻚ إﻧﺴﺎﻧﯿﺔ ﻣهﻤﺔ ﻓﻲ ﺟﺴﺪ ﻣﺎردٍ ﺟﺒﺎر». اعتبر الإمام الصدر أن «التعايش الإسلامي – المسيحي في لبنان ثروة حضارية يجب التمسك بها»، ومن دون هذه الثروة يسقط وينتهي، فـــ«الطوائف نعمة والطائفية نقمة». وقال بأنّ من يطلق رصاصة على القرى المسيحية كأنه يطلقها على صدره ومحرابه وعمامته.
اعتصم موسى الصدر عام 1975 احتجاجاً على استمرار الحرب الأهلية، حتى لبّت الدولة في حينه مطالبه بتشكيل حكومة مصالحة وطنية. حارب الحرمان والإقطاع والتمييز في التنمية، وأعلن أنه لن يسكت طالما هناك محروم أو منطقة محرومة في لبنان. كافح الإمام الصدر مشاريع التقسيم بشدة، معتبراً أن «لبنان أصغر من أن يُقسَّم وأكبر من أن يُبتلع»، وأن التقسيم هو بمثابة “إسرائيل” ثانية في قلب الوطن. وأكد أن «لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه»، وهي العبارة التي تضمّنتها مقدمة دستور الطائف. ودافع عن حرية التعبير، مؤكداً أنّ «الحريات هي الدعامة الأساسية لكيان لبنان». أطلق موسى الصدر مقاومة “إسرائيل” أولاً بـ«أسنانكم وأظافركم وسلاحكم مهما كان وضيعاً»، وثانياً من خلال وحدة لبنان، وسلامه الذي هو أفضل وجوه الحرب مع “إسرائيل”. واعتبر أنّ “إسرائيل” شرٌّ مطلق والتعامل معها حرام.
غُيّب صوت موسى الصدر الذي جهد لإعادة الممارسة الدينية إلى موضعها الإنساني، فاهتزّ في لبنان والمنطقة العربية والإسلامية، مسار التصويب الديني والتقارب المذهبي المحق، لينهض شذاذ الدين يحرّفون تعاليم السماء ويُسقطون الدين، على قياس جهلهم وعلى امتداد مصالحهم وأهوائهم. كان الإمام الصدر يصرخ ليدعو اللبنانيين إلى كلمة سواء وإلى الحوار وإلى الثقافة الدينية الصحيحة، وغاب ليغرق لبنان في الجنوح المذهبي والطائفي، ويستشري الغلو والجهل ويستحكم الكره، وباتت حتى العمامات، تحارب الدين باسم الدين.
في ذكرى تغييب الإمام موسى الصدر، تحضر مخاطبته السياسيين بالقول: «أنتم أيها السياسيون آفة لبنان وبلاؤه وانحرافه ومرضه وكل مصيبة، إنكم الأزمة، إرحلوا عن لبنان». ويحضر قوله: «ليس في العالم شعب صغير وشعب كبير بل شعب يريد الحياة وشعب لا يريدها». في التاريخ، هناك ثائر من أجل العدالة السياسية أو المساواة الاجتماعية، وآخر من أجل الفقراء والمستضعفين، ولكل ثائر قضية أو اثنتان أو ثلاث.
لكن موسى الصدر ثار دون هوادة من أجل العدالة السياسية والعقد الاجتماعي السويّ، أفقياً وعامودياً، ومن أجل الفقراء والمحرومين والمستضعفين، وضد التعصب والطائفية وفي سبيل كلمة سواء، وللتقارب المذهبي، ومن أجل وحدة الوطن وسلامه ونهضته، وضد الاعتداءات الخارجية، وثار ضد الفساد وضد الإقطاع، ومن أجل نشر فقه المنطق وبث الجرأة لإعمال الفكر والعقل، وفي سبيل الحرية وكرامة الإنسان. فمن لم يعرف سيرة موسى الصدر جيداً، في سنوات عمره الخمسين قبل أن يُغيّب، أو عرفها عبر التواتر والأخبار والقصص، فليقرأها جيداً في تفاصيلها، ليتعرّف على معنى الثائر الشامل.
(جهاد الملاح)
مقال نُشِر الجمعة في 29 آب 2014، في صحيفة «سلاب نيوز» الإلكترونية