ترانيم ميلادية ” لكشافة المهدي” في رميش

تحقيق: دعاء عقيل

ترانيم ميلادية لكشافة المهدي في رميش (5)

       يا غيمة حقد زيحي            وبكفّي تستبيحي

   بقلوب الناس والإحساس       ويا كلمة حق صيحي

    ما بيحيا وطنّا                      ونشوف الطير غنّى

     تيطير بجنحينو                   المسلم والمسيحي…

   هذه أولى الكلمات التي افتتح بها انطوان خوري الحفل الذي أُقيم مساء أمس في كنيسة التجلي في رميش، حيث أقامت الفرقة الهارمونية في جمعية كشافة الإمام المهدي (عج) ترانيم ميلادية بمناسبة ميلاد السيد المسيح، بالإشتراك مع كورال أوركسترا شمس الحريّة، والأساتذة: أحمد همداني، شادي عيدموني وخضر بربر وقيادة المايسترو علي باجوق.

    وقد حضر الحفل النائب أيوب حميّد، المطران نبيل شكرالله الحاج، العميد الركن شربل أبو خليل، ممثل قائد اليونيفيل العميد ساياردي، العقيد صوما ممثل قائد اللواء الخامس، قائد الكتيبة الفرنسية، المقدم عبدو خليل، الرائد حسن حرز، المؤهل أول محمد حمود، الحاج شفيق دقيق والعديد من الفعاليات من مدراء مصارف، جامعات، مدارس ومهنيات، فضلاً عن رؤساء وأعضاء البلديات والمخاتير…

   افتتح الحفل بالنشيد الوطني اللبناني ولحن الشهداء، تلاه عزف خمسة مقاطع موسيقية من وحي المناسبة، وكلمة المطران نبيل شكراللهالحاج راعي أبرشية صور للموارنة، لتتابع الفرقة وتقدم باقة من أجمل الترانيم التي ترمز لولادة المسيح.

عودة جثامين ضحايا الطائرة الجزائرية: “يا رَيتني مِتِت قَبلُن”

large-لبنان-العائلات-يستقبلن-جثامين-ضحايا-الطائرة-الجزائرية-صور-32a5f
كتبت ناتالي اقليموس في “الجمهورية”:

“مقهور” والدمع يسيل عرض خدّيه، وقف فايز ضاهر ينتظر وصول زوجته وأولاده، عين على عقارب ساعته، وعين تُحاكي بصمتٍ السماء. هو الذي كان يَتفنّن في انتقاء هدايا رأس السنة، لهم، فجاءته الهدية باكراً… جثامين عائلته. يفجر بالبكاء: “يا ريتني مِتِت قَبلن… لمَن أعيش بعد اليوم؟”

ضاقَ مطار رفيق الحريري الدولي بالتأوّهات، فسادَ البكاء. بعدما كان أمس أهالي ضحايا الطائرة الجزائرية التي تحطّمت في 24 تموز الماضي، وهي متوجّهة إلى بوركينا فاسو، على موعد مع تسلّم جثامين عائلاتهم وأقاربهم.

حقيقة مرّة

قاتماً بدا مشهد تسلّم الجثامين. لقاء لطالما انتظره الاهالي وفي الوقت عينه تمنّوا لَو يتأخر. “كنّا لوهلة نعتقد أنّه كابوس ومضى، ولكن اليوم بعدما تسلّمنا أقاربنا أشلاء في صناديق، تأكدنا كم انّ الحقيقة مرّة”. يتحدّث حسن دهيني إلى “الجمهورية” محاولاً كبت دموعه: “جئت أستلم عائلة عمي بلال دهيني بكاملها، فقد قضى وزوجته مع أولادهم الثلاثة (13 سنة، 8 سنوات، 5 سنوات). منذ 4 أعوام لم يعودوا إلى لبنان، أرادَ عمّي مفاجأتنا في رمضان ليُعرّفنا الى أولاده، وإذ حَلّت بهم الكارثة… مِتل الكذبة”.

على رغم مرارة الكأس وخسارتهم العائلة برمّتها، يَجد حسن عزاءه بأنّ “العائلة مضت في مشوارها الأخير معاً. لا شك في أنّ عمّي لم يكن ليستوعب أيّ صدمة في حال خسِر أحد أفراد أسرته… ربما الله أراد أن تموت الأسرة معاً لكي لا يتعذب أفرادها”.

وتعليقاً على عملية استعادة الجثامين، قال حسن: “من المرّات النادرة التي تتصرّف فيها الدولة باحترافية، ربما ولحسن حظنا أنّ عدداً كبيراً من الركاب كانوا من الجنسية الفرنسية، فتعاملوا مع الضحايا بجدية ومتابعة. إهتمام فرنسا فرض احترافية في التعامل”.

LEBANON-FUNERAL-ACCIDENT-CRASH-AVIATION-ALGERIA-MALI“فادي ما في أطيب منّو شَبّ”. من حرقة قلب تتحدّث والدة فادي رستم، قائلة: “لا شك في أننا كَفرنا بادئ الامر، فالمصاب أليم، والفاجعة أصعب من أن يتحمّلها بشري، ولكنّ حكمة ربنا تطغى على أي شيء”. وتضيف: “رجاؤنا أنّ أولادنا قديسون، من “الأوادم” الطيّبين. خسرت اليوم أخاً وصديقاً قبل أن يكون فادي ابني الحنون”.

هي إرادة الله؟ هي لعنة القدر؟ إحتارَ الأهالي في توصيف الفاجعة. فلم تكد تصِل جثامين الضحايا موزّعة على سيارات الصليب الاحمر، حتى ارتفع النحيب، وتوالت الصرخات بالتزامن مع عَزف قوى الامن الداخلي لحن الموت.

وكانت استعدادات خاصّة قد اتخذت في المطار، الذي غصّت باحته بالمستقبلين، يتقدّمهم: النائب علي بزي ممثلاً رئيس مجلس النواب نبيه برّي، وزير البيئة محمد المشنوق ممثلاً رئيس الحكومة تمام سلام، وزير الأشغال العامة والنقل غازي زعيتر، رئيس كتلة “الوفاء للمقاومة” النائب محمد رعد والنائب علي عمار، وفد من حركة “أمل” ضمّ: طلال حاطوم وعلي بردى وعلي مشيك، وفد من العلماء والمشايخ وعلماء الدين، وفد من المطارنة، وفد من الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم، وشخصيات.

 

الإمـام موسى الصدر… الثائر الشامل

الأحد 31 آب 2014 – 11:30 ص

Imam-sadr34

لا يمرّ يوم على لبنان وعلى المنطقة العربية عموماً، إلا ويتصاعد العنف على جبهات المذاهب والأديان فيه، بينما يخفت تدريجياً صوت الإسلام المعتدل، الإسلام الذي يحمل الاعتدال بمعناه الحقيقي، وبالطبع ليس المجازي أو السياسي.

ووسط هذا الواقع القاتم، حيث تُحمّل الأديان والمذاهب ما لا طاقة لها به، في حكايةٍ تارةً عنوانها المذهب وطوراً عنوانها الطائفة، يحضر الغائب الحاضر، من صرخٍ في البراري والساحات والقاعات والمساجد والكنائس، بأنّ أصل تلك الحكاية في مكانٍ آخر اسمه الإنسان، وطريقه الإنسانية، طريق يحمي الوطن ويرفع درجات المواطنية، ويصان فيه الدين بصدق.

هو الإمام المغيّب السيّد موسى الصدر، الذي تصادف هذا الأسبوع ذكرى تغييبه السادسة والثلاثون، مع رفيقيه، على يد نقيضه المطلق معمر القذافي. هو الإمام الذي سار على فقه نهضوي، استلهمه من أسباب الدين ومن تعاليمه الصائبة وعلياء مفاهيمه، فمنح العمامة رُقيّاً قلّ مثيله بين رجال الدين.

وعلى الرغم من حضور الإمام موسى الصدر في وجدان الكثير من اللبنانيين والعرب، والإشادة الدائمة بدوره السياسي والوطني بشكل عام، خصوصاً في ما يتعلق بمحاربة التقسيم والطائفية والحرمان ورفض الاقتتال وبتعبئة الشباب لنيل حقوقهم المشروعة، وبالطبع بإطلاق المقاومة في وجه “إسرائيل”، إلا أنه لم يُعطَ حقه بعد، في ما يرتبط بقيمته الحضارية والثقافية والدينية والإنسانية، التي تتخطى الظروف المكانية والزمانية، وترتفع بعيداً عن الأنماط الفكرية الاعتيادية.

فقد شكّل الإمام الصدر امتداداً مدوّياً لجمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده، فثار بتعاليم السماء إلى أعلى مراتب الكرامة الإنسانية. وإذا كان جمال الدين الأفغاني قد أعلن أنه ملعون في دين الرحمن، من يسجن شعباً، من يخنق فكراً، من يرفع سوطاً، من يُسكت رأياً، من يُهدر حق الإنسان، حتى لو صلّى أو زكى وعاش العُمرَ مع القرآن، فإنّ موسى الصدر قد حمل كل ذلك إلى أرض الواقع، في تجديدٍ قائمٍ على الإيمان والشجاعة والإقدام، ومشى به وسط الأزقة والحقول وبين القرى والمدن وفي القاعات والساحات، ثائراً ضد الظلم والحرمان والإقطاع والفساد والتصنيف والتعصب.

أتقن الإمام الصدر فقه المنطق وعمل على بث الجرأة لاستخدام العقل، محاكياً بعض ما أتى به إيمانويل كانط الذي رفع المجتمع الغربي المتطور. وإن كان هذا المجتمع أخذ من كانط جزئية العقل وترك في حالات عدة، باسم «التنوير»، الاعتقاد الديني، مهملاً توصيات الفيلسوف الألماني، فقد ارتقى الإمام اللبناني بمفهوم جديد للعلاقة ما بين الدين والسياسة. وهي علاقة جعلها تلين أمام المواطن وكرّسها مطية للإنسان، خليفة الله على الأرض، فرفض أن تخضع السياسة للحسابات الطائفية فتمعن احتقاراً في إنسانية المواطن وتضرب الوطن والدولة، كما رفض أن تلتحق الأديان بالسياسة فتتلوَّن اجتهاداتها وتتبدل طاعة لهذه السياسة وجنوحها.

قال الإمام الصدر إن «تجار السياسة هم الذين يغذون النعرات الطائفية للمحافظة على وجودهم بحجة المحافظة على الدين في الوقت الذي يكون الدين فيه بحاجة إلى من يحميه منهم»، ورأى أن الوطن عند هؤلاء التجار «كرسي وشهرة ومجد وتجارة وعلو في الأرض وفساد». واجه موسى الصدر الطائفيين، معلناً أن «دم المسيح يجري في عروقنا وصوت محمد يدوي في مسامعنا». وخَطب في كنيسة الكبوشيين خطبة هي «أھﻢ اﻟﺨﻄﺐ أﻟﺘﻲ اﻟﻘﯿﺖ ﻓﻲ اﻟﺰﻣﺎن واﻟﻤﻜﺎن وأﺑﻠﻐها»، بحسب الراحل غسان تويني، الذي قال عنه إنه «ﻳﺨﺘﺰن الإنسان اﻟﺤﻨﻮن اﻟﺬي ﻳﻤﺘﻠﻚ إﻧﺴﺎﻧﯿﺔ ﻣهﻤﺔ ﻓﻲ ﺟﺴﺪ ﻣﺎردٍ ﺟﺒﺎر». اعتبر الإمام الصدر أن «التعايش الإسلامي – المسيحي في لبنان ثروة حضارية يجب التمسك بها»، ومن دون هذه الثروة يسقط وينتهي، فـــ«الطوائف نعمة والطائفية نقمة». وقال بأنّ من يطلق رصاصة على القرى المسيحية كأنه يطلقها على صدره ومحرابه وعمامته.

اعتصم موسى الصدر عام 1975 احتجاجاً على استمرار الحرب الأهلية، حتى لبّت الدولة في حينه مطالبه بتشكيل حكومة مصالحة وطنية. حارب الحرمان والإقطاع والتمييز في التنمية، وأعلن أنه لن يسكت طالما هناك محروم أو منطقة محرومة في لبنان. كافح الإمام الصدر مشاريع التقسيم بشدة، معتبراً أن «لبنان أصغر من أن يُقسَّم وأكبر من أن يُبتلع»، وأن التقسيم هو بمثابة “إسرائيل” ثانية في قلب الوطن. وأكد أن «لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه»، وهي العبارة التي تضمّنتها مقدمة دستور الطائف. ودافع عن حرية التعبير، مؤكداً أنّ «الحريات هي الدعامة الأساسية لكيان لبنان». أطلق موسى الصدر مقاومة “إسرائيل” أولاً بـ«أسنانكم وأظافركم وسلاحكم مهما كان وضيعاً»، وثانياً من خلال وحدة لبنان، وسلامه الذي هو أفضل وجوه الحرب مع “إسرائيل”. واعتبر أنّ “إسرائيل” شرٌّ مطلق والتعامل معها حرام.

غُيّب صوت موسى الصدر الذي جهد لإعادة الممارسة الدينية إلى موضعها الإنساني، فاهتزّ في لبنان والمنطقة العربية والإسلامية، مسار التصويب الديني والتقارب المذهبي المحق، لينهض شذاذ الدين يحرّفون تعاليم السماء ويُسقطون الدين، على قياس جهلهم وعلى امتداد مصالحهم وأهوائهم. كان الإمام الصدر يصرخ ليدعو اللبنانيين إلى كلمة سواء وإلى الحوار وإلى الثقافة الدينية الصحيحة، وغاب ليغرق لبنان في الجنوح المذهبي والطائفي، ويستشري الغلو والجهل ويستحكم الكره، وباتت حتى العمامات، تحارب الدين باسم الدين.

في ذكرى تغييب الإمام موسى الصدر، تحضر مخاطبته السياسيين بالقول: «أنتم أيها السياسيون آفة لبنان وبلاؤه وانحرافه ومرضه وكل مصيبة، إنكم الأزمة، إرحلوا عن لبنان». ويحضر قوله: «ليس في العالم شعب صغير وشعب كبير بل شعب يريد الحياة وشعب لا يريدها». في التاريخ، هناك ثائر من أجل العدالة السياسية أو المساواة الاجتماعية، وآخر من أجل الفقراء والمستضعفين، ولكل ثائر قضية أو اثنتان أو ثلاث.

لكن موسى الصدر ثار دون هوادة من أجل العدالة السياسية والعقد الاجتماعي السويّ، أفقياً وعامودياً، ومن أجل الفقراء والمحرومين والمستضعفين، وضد التعصب والطائفية وفي سبيل كلمة سواء، وللتقارب المذهبي، ومن أجل وحدة الوطن وسلامه ونهضته، وضد الاعتداءات الخارجية، وثار ضد الفساد وضد الإقطاع، ومن أجل نشر فقه المنطق وبث الجرأة لإعمال الفكر والعقل، وفي سبيل الحرية وكرامة الإنسان. فمن لم يعرف سيرة موسى الصدر جيداً، في سنوات عمره الخمسين قبل أن يُغيّب، أو عرفها عبر التواتر والأخبار والقصص، فليقرأها جيداً في تفاصيلها، ليتعرّف على معنى الثائر الشامل.

(جهاد الملاح)

مقال نُشِر الجمعة في 29 آب 2014، في صحيفة «سلاب نيوز» الإلكترونية

نصف ساعة في شوارع بيروت

J.Mallah

بقلم: جهاد الملاح

خرجتُ إلى المدينة، على مرمى من البحر الذي شاهد كل شيء، وشهد كيف نَبَت هوس الانحراف السياسي في قلب هذا الوطن، منذ ولادة الشرائع الأولى، إلى مواثيق الفصل العنصري المُغلّفة بالطوائف، إلى يوم تبديد الشعب بالتمديد.

وسط شوارع بيروت، التي اعتادت الخوف المزمن، من مساء قد يحمل دماً، أو من صباح يتراشق فيه الأطفال في طريقهم إلى المدرسة، بعضاً من السياسة والطائفية، اصطف الناس في سياراتهم أفواجاً متداخلة، يوحّدهم انتظارٌ يشبه الغضب، وتتلاعب فيهم فوضى، ترعرعت على عقود من الانحلال السياسي والعيش العفوي.

حاولتُ التسلّل بين الشوارع الخلفية، لعلّني أخدع الوقت الذي يمرّ ببطء في ظهيرة المدينة، فالتقيتُ بأزقة ترتفع فيها لافتات الأضداد، وتفوح من سكونها روائح الذكريات المتناقضة. لا تكاد صورة فرح قديمة تطلّ برأسها، حتى ترفدها صور لعيون حمراء أدماها الحزن أو ملأها الشر. وبين الصور وجوه شاحبة على مرّ جيلين أو ثلاثة، سرق اليأس ألوانها ونزع الحزن ملامحها.

دُرتُ في الأزقة لدقائق، حتى أيقنت أن سكونها كان مؤقتاً، لأنها مهما تداخلت بصمت وهدوء، فستعيدني في آخر المطاف إلى الشوارع القاتلة، حيث أرى على مدار الالتفات، إيماءات سائقي التاكسي وكأنها مسرحية ثورة، وأقرأ على شفاههم شتائم لسياسيين لا يلتقونهم إلا عبر شاشات المساء، وألحظ في عيونهم لوماً لأسمنت ينتشر في الطرقات، قبل الإرهاب وبعده، طلباً للحصانة، وإمعاناً للفصل التاريخي بين الشعب والنظام، منذ أول ميثاق عار في دولة العار.

معظم المدن تزدحم وتصرخ لتمتلئ بالحياة والعيش الصاخب، لكن من يقرأ كتاب بيروت في هذا الزمن، يعلم جيداً أن صخبها ليس حياة بل يشبه الحياة. الفوضى والتمييز والإهمال والتخلي والطائفية والمذهبية والانهيار، كلها كلمات تتكرر، لتخبر قصة مدينة كلما أطلّ فيها الأمل، ما يلبث أن يخفت إذعاناً للحذر وخشية من طموح يشاغب خارج الواقع.

نصف ساعة وأنا أدور في منطقة تشبه «الكاتراز»، فلم أصل إلى مكان إلا إلى حقيقة صارخة: الفوضى ستبقى ملكة أم الشرائع، والأسمنت سيظل يفصل بين الشعب والساسة، طالما بقيت العبودية المقنّعة بشعارات الحرية، تتغذى على عقول مواطنين يدعّون العزة السياسية ثم يقبلون العيش على هامش سلطات بُنيت بجلودهم ورفعت فوق أجسادهم.

سيبقى العار يقود نظام لبنان ويتسيّده، وتبقى صفحات العقد الاجتماعي ملطخة بالغبن والذلّ، إلى أن يأتي يوم تُخرج فيه الإنسانية مخالبها البيضاء، أو ربما يتحقق حلم الصغر، فيستطيع مواطن ما أن يدخل شاشات الأخبار، ليسحب المنافقين من رقابهم.

“للنشر”: وداعاً ريما كركي… أهلاً تمّام بليق

349

منذ انطلاقة برنامج “للنشر” على قناة “الجديد” اللبنانيّة مع الإعلاميطوني خليفة، طغت هُويّة على البرنامج، تبغى “السكوبات” وفتح المواضيع التي قد تُحدث جدلاً في المجتمع. مع أنّ الطروحات كانت سطحيّةً في كثير من المرّات، وخرجت عن إطار الطرح البنّاء نحو حصد عدد أكبر من المشاهدين، ومنافسة إعلاميين آخرين على قنوات أخرى يُقدّمون نفس نوعيّة البرامج.

ومع انتقال الإعلامي طوني خليفة إلى قناة “إم تي في” لتقديم برنامج جديد، فازت الإعلاميّة ريما كركي بتقديم “للنشر”. وهكذا حصل. لكنّ الإعلاميّة التي عُرفت في لبنان من خلال تقديم برنامج “عالم الصباح” على قناة “المستقبل”، لم تكُن على “مستوى الأخبار الجنسيّة التي تبتغي القناة طرحها في هذا البرنامج”.

والحقيقة، أنّ هذا كان واضحاً من خلال طريقة كركي في تقديم البرنامج وتفاعلها مع المواضيع المطروحة. على سبيل المثال، تعاطيها مع الفيديو الذي أرسله “مجهول” إلى قناة “الجديد”، والذي يُظهر طفلين ما دون العاشرة من عمرهما، واللذين مارسا الجنس كما شاهداه على الحاسوب. فالإعلاميّة تعاملت مع الموضوع وكأنّها أمّ الطفلين، وليس كإعلاميّة تُريد الصراخ على الهواء لتُحضارنا عن الأخلاق وغيرها في الموضوع الجنسي.

وليس هذا فقط، فقد تعرّضت كركي للانتقاد الشديد على وسائل التواصل الاجتماعي في لبنان، عندما استضافت رجلاً نبش قبر والدته ليلتقط صورة “سيلفي” معها.

هذا كلّه، أتى بالتزامن مع انطلاق برنامج “بلا تشفير” مع تمام بليق على القناة. وبليق قادم من خلفيّة إذاعيّة (مليودي) وقدّم برنامجاً على قناة “هي”. وهو عُرف بطرحه “الجريء” للمواضيع في برامجه. فكان حضوره إلى القناة مع مغادرة خليفة بمثابة تعويضٍ من القناة، لطرح برامج تُحدث ضجّة وجدلاً في الوسط اللبناني.

هكذا عرّف بليق عن برنامجه في أولى حلقاته، عندما أكّد أنه سيستضيف أشخاصاً “مثيرين للجدل”. وهكذا أيضاً، استضاف بليق الموديل ميريام كلينك، وسألها “ليه صايرة قدّ البقرة” على الهواء. كما استضاف الفنانة مي حريري، التي رشقته بالقهوة. كما استضاف العقيد المتقاعد فايز كرم، والمتهم بالتعامل مع إسرائيل.

ويبدو، أنّ قناة “الجديد” منزعجةً من أداء كركي في ما خصّ إحداث الضجّة الإعلاميّة والمواضيع الجنسيّة والتابوهات. فتقول المصادر لـ”العربي الجديد”، إنّ “القناة بصدد الاستغناء عن كركي في تقديم “للنشر” والاستعاضة عنها ببليق؛ لأنّه أقدر على التعاطي مع المواضيع الجنسيّة تحديداً”.

وتوضح المصادر أنّ “الخلاف مع كركي على تقديم هذا النوع من المواضيع ليس جديداً، إلا أنّه استجدّ مع قرار القناة استقدام شخصين مثليين في الحلقة المقبلة من البرنامج وتزويجهما على الهواء، الأمر الذي لم تتقبّله كركي”. علماً أن القناة تبحث عن الإثارة من خلال هذا الخبر، وليس عن الدفاع عن الحريات الجنسية. كما تؤكّد المصادر أنّ “القناة لن تستغني عن كركي كلياً، بل ستستمرّ بالعمل في القناة عبر تقديم برنامجٍ آخر”.

كركي إذاً لم تجد هويتها في المحتوى الجنسي الذي تريده القناة لتتمكّن من منافسة طوني خليفة… أما القناة فمبتغاها (مثل كل القنوات) هو نسبة المشاهدة… وبين نسبة المشاهدة والأخبار الجنسية، تغادر كركي مطلع العام الجديد برنامج “للنشر”.

الثورات… عجرها وثمراتها

نهلة الشهال

هُزِمت الثورات التي انطلقت منذ أربع سنوات، وعمت منطقتنا من أقصاها إلى أقصاها، حتى لامست الممكن حيث لم تقع. هُزمت سياسياً، ليس فحسب بمعنى التمكن من الاستيلاء على السلطة، وهو ـ هذا الاستيلاء أو الطموح إليه ـ حق وليس عُرّة، وذَهبت في سياقات متنوعة، كشفت جميعها عن أعطاب أساسية، ليس اقلها العجز الفكري وانعدام الخيال السياسي ونقص التهيؤ.. وأمراض أخرى.

لكن، لأنه هناك “لكن” كبيرةMideast Egypt

فما وقع منذ أربع سنوات لم يكن مأمولاً، لأن اليأس من وقوعه كان قد بلغ أبعد مداه، بحيث حوّل فكرة التمرد والرفض والاحتجاج والإرادة.. إلى مفردات لا طائل منها. ليتبين أن جمراً كان تحت الرماد، وأن الموجة الأخيرة تلك التي نجحت في هزّ البنى السياسية (فقلبت السلطات أو هددتها، كما تَحدّت المعارضات القائمة)، هي وريثة محاولات كثيرة أحبطت في كل مرة، إلى حد إيقاع ذلك اليأس الذي أصبح أحد أدوات الحكم، جنباً إلى جنب مع القمع والتجهيل والإفقار الخ..

وما وقع منذ أربع سنوات، وما دل عليه من “إمكان”، أثار رعب النظام المهيمن (بالمعنى العام) فلجأ إلى توسل كل ما تملك أطرافه لكبح الثورة واستعادة الزمام. وعلى رأس الأدوات القمع العنيف. كما أنه لو كان هناك تآمر كما يُقال (فالهزائم تثير الشك بالنفس!) فهو وقع في هذا البند وليس في إطلاق الثورات. ولا شك أن القصور الذاتي كان حليفاً لمخططات الرِدة تلك.

وما وقع منذ أربع سنوات، وبرغم هزيمته السياسية، أوقف حالة متمددة، كانت أصلاً أحد الأسباب الدافعة للثورات، سماتها اتجاه السلطات الحاكمة إلى التخلي عن كل الوظائف الاجتماعية، وتبني البرانية والابتذال والاستهتار والتغول في الفساد.. فوصل الأمر إلى حد الاستغناء ـ حتى رمزياً في السكن مثلا وفي الخطاب، وليس فحسب في خيارات الإنتاج ـ عن كل صلة بالمجتمع، وتحويل الناس (والمدن بما فيها العواصم) الى “زائدين عن الحاجة”، كمٌ مهمل. تضطر السلطات اليوم إلى استعادة الاهتمام بالناس ولو كذباً، وإلى العودة الى “كسبهم” بمقدار قمعهم.

ما وقع منذ أربع سنوات أرضٌ لاستمرار الصراع. ففي هوامش الحقل السياسي ظهر امتلاك هذه المجتمعات للصبر والعناد، وأزهرت إبداعات خلاّقة. سيصير التغيير.